قد ظن كثير من الناس أن الغائب على خطأ، حتى ضربوا بغيابه المثل، فقالوا: الغائب على خطأ، ولطالما رأيت في نفسي عند الغياب أني على صواب، فقد غبت لحاجة منعتني من الحضور، وكنت إذا قرأت عن الغياب وتوابعه وجدت الغائب غير مغفور له هذا الغياب إلا بعذر يقدمه، وشيوع فكرة بين الناس تجعلها في أعرافهم، وتبنى عليها علاقاتهم ببعضهم، فهل الغائب على خطأ حقًا أم أنه معذور؟
والناظر في آداب الناس وثقافاتهم يجد هذا المثل سائرًا بينهم، ففي الإنجليزية يقولون: The absent is always in the wrong ومعناه أن الغائب على خطأ، وقد وجدتهم يتعاملون مع بعضهم من هذا المنطلق، بل لربما جاؤوا على قبل موعد الحضور ليتجنبوا هذا الخطأ، ولما التقيت بناس غيرهم من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا أو حتى من الصين واليابان، وجدته أصلًا في تعاملهم كذلك، وما كان لمثل هذه الفكرة أن تشيع بين الناس إلا لحاجتهم الماسة إلى تقدير أوقاتهم قبل تقدير أوقات الناس، وقد شدني أن رأيته بهذه الصيغة في مطالعتي للأدب الفرنسي، وخاصة في القرن التاسع عشر، فرأيت الكاتب الفرنسي ديستسيويش في مسرحيته عقبة بلا عقبة يورد المثل نفسه، ويقصد به أن ملامة الغائب سهلة على الحضور لأنه غائب، فشدني هذا المعنى فيه، ولو تأملت فيه لوجدته صائبًا، فما من غائب يدافع عن نفسه أو يبرئها عندما يتهموه، فهو غائب، والغائب لا يقدر أن يجحد ما غاب عنه.
ومثل هذه المعاني شائعة في أدبنا العربي، بل لربما شاعت في سليقة الناس وطبائعهم، حاضرتهم وباديتهم، صغيرهم وكبيرهم، قريبهم وبعيدهم، لكن شيوعها عندنا يخالف شيوعها عندهم من جانب المعنى، فالعربي لا يلوم الغائب بل يعذره، وقد أورد الأدب لطائف كثيرة في هذا الشأن، بل إنك لتجد العامي يقول في سليقته: الغايب عذره معه، ويقصد: حجة الغائب معه، وقد قالوا: ليس من العدل سرعة العذل. وفي الشعر ما لا يحصى من هذا المعنى، فقد قال الشاعر:
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرًا وأنت تلوم
ولعل من جميل ما استوقفني في هذا الباب قصة نبينا سليمان عليه السلام مع الهدهد، يقول الله تعالى: “وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين – لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين”، فقد تريث نبينا سليمان عليه السلام في حكمه على الهدهد وهو غائب، إلا أن يأتيه بحجة مبينة. ولو عدت بك إلى طبائع الناس لرأينا مثل هذا المعنى الخلاق يدور بينهم، فتراك تجد العامي حين يتأخر عنه صاحبه يقول: “الغايب عذره معه” وإن لم يكن معه عذرًا.
ولعلني أقف هنا في معاني الناس التي يتعاملون بها مع بعضهم، هل أعامل جون بأدبي وثقافتي كما أعامل أحمد، أم كل واحد منا يعامل الآخر بأدبه وثقافته؟ ولكم رأيت في هذا الاختلاف من الحلاوة ما رأيت، فقد ترى ما هو سمح ومقبول ومحبوب في ثقافتك؛ نكرة ومستهجن وغريب في ثقافة غيرك، فإن كان الغائب عندك معذورًا لعله كان في ثقافة غيرك مذنبًا.