يشيع في قرون مضت وخاصة في بلاد الصين وما جاورها أن الإنسان يطلب من الناس عند مماته أن يدفنوه مع الكنز الذي عثر عليه في حياته، وغالبًا هذه الكنوز تكون من الكتب والمخطوطات.

إن بناء المكتبة وتشييدها في تاريخ البشر هي بداية تاريخهم المسجل بمعنى أن جميع الحضارات القديمة لما فكرت بفكرة التدوين جاءت بفكرة المكتبة على أذهانهم وسووها، فالمكتبة لم تكن في عرفهم كما هي في عرفنا اليوم، ففيها كانوا يؤرشفون مستنداتهم ومعاملاتهم التجارية، ولم يكن في هذه المعاملات التجارية شيئًا من علوم الفكر والفلسفة، لكن منفعتها كانت كبيرة في تنمية الإنسان بركائز مجتمعه التي يتربى عليها في تعامله مع المجتمعات الأخرى خاصة في المعاملات التجارية، فإذا احتاج الناس مثلا لمعرفة أمر من الأمور كمعرفة محصولهم الغذائي أيكفيهم تلك السنة أم لا يرجعوا لتدوينهم المسجل ويحسبوا الحسابات فيتلافوا بتلك المشقة التي قد تواجههم في حياتهم.

وفي علوم التاريخ يقال بأن مكان ولادة الكتابة هو مكان ولادة المكتبة، ومكان ولادة الكتابة كان من حضارة سومر أي قبل ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، وكانت ولادة الكتابة تلك من الألواح الطينية وأشكال الكتب القديمة، وبهذه الطريقة صيغة أدوار المكتبة من ربط الناس بالمعرفة لأنهم يعرضون عليهم هذه السجلات المدونة، ولعل من أشهر المكتبات الرائجة في هذا الشأن هي مكتبة الإسكندرية، فهي من المكتبات التي نُوزِع كثيرا في جوهرها، فقد ذهب بعض المؤرخين إلى أنها احترقت بحريق يوليوس قيصر، وكذلك مكتبة سيلسوس في الإمبراطورية الرومانية التي تقول الروايات التاريخية أن كثيرًا من كتب هذه المكتبة أهدِيَ الى مكتبة الإسكندرية، ومن هذه المكتبات تطور كثيرًا ما نستعمله اليوم من علوم المكتبية وتقنياتها، كالترتيب الأبجدي وعلامات الترقيم ومسرد المصطلحات وقواعد الكتب التي هي من صلب مكتباتنا المعاصرة، فقد كان دور المكتبات القديمة حفظ النسخ ليصل إليها الناس وتوجيههم إلى المعلومة الصحيحة وذلك لا يكون إلا عن طريق أمين المكتبة، فهو حلقة الوصل بين الناس والمعلومة الصحيحة، فدوره ليس مقتصرا على رعاية المكان وحفظه وأمنه، بل وصل إلى توجيه الناس للمعلومة الصحيحة، فهو  ليس طبيبًا لكنه يربط الأطباء بمعلومتهم. وعلى هذا الديدن أصبحت المكتبة مكانًا للزائرين والعلماء وكل راغب بالاستزادة والتعلم.

ولو فتشت في التاريخ لوجدت أن المكتبة تقلبت على أوجه كثيرة، فانتشار الكتب بين الناس مثلا كان غريبًا جدًا على الناس، لظروف عديدة لعل أبرزها هي ظروف الطباعة والورق، فشاع في اليونان والصين مثلًا أن تداول الكتب بين الناس كان من مكتبات خاصة وعلى نسخ من الطباعة الخشبية كانت محدودة جدًا ومختلفة عن ما نعرفه اليوم من الكتب والورق، فتطور المكتبات كان على ضربين الأول :مكتبات خاصة لكنها أتيحت للعوام. وقبل أن تنتقل المكتبات إلى مكتبات عامة كانت فكرة المكتبات الشخصية والخاصة فكرة شيقة وجذابة، لكن هذه المكتبات كانت لكتب الشعر والحكمة المشهورة، فصار المتعلمون يأتون إليها، وقد نجد اليوم ملامح من هذا، ومن اشتهر بهذا هو أرسطو، فيشيع أن مكتبته من أكبر المكتبات في زمانه بل أصبحت هذه الجامعة الخاصة لتلامذته وطلابه، فكثير من طلبته كانوا يأتون إليها للتعلم والبحث عن المعلومة كما لو كانت هي المدرسة والجامعة، وقد اشتهر في القرن الثاني في روما هذا المعنى، فكانت المكتبة شكلًا من أشكال الثراء، فإضافة إلى أنها رمز للمعرفة والعلم والتعلم لكنها كذلك رمزًا للثراء الفاحش، فالثري من عنده مكتبة في بيته، وأظن أن هذه الفكرة منتشرة حتى زماننا هذا، تجد الناس ينظرون إلى من عنده مكتبة في بيته على أنه رجل ثري لأن لديه مكتبة خاصة في بيته.

لكن مع تطور الطباعة في القرن الخامس عشر، ظهر الورق والطباعة وشاعت وانتشرت بين الناس، ثم ظهرت بعد ذلك المكتبات المسلسلة والمربوطة كتبها بسلاسل، فكل قارئ لا يقدر على مغادرة المكتبة وإن أراد القراءة فليس من مكان آخر إلا المكتبة، وكان ذلك بسبب حفظ الكتب من السرقة واللصوص، فالكتب على أن فيها معلومات ثمينة فقد كان ثمنها كذلك باهضًا، وكان ذلك شائعًا في القرون الوسطى حتى القرن الثامن عشر،بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، فلم يكتفوا فقط بأن القارئ لا يقدر على مغادرة المكتبة وإنما كانوا يغلقون عليه بداخلها في غرفة خاصة به شريطة أن يكون الكتاب مسلسلا مربوطًا. ثم توسعت بعد ذلك المكتبة وجاءت الرفوف والكتب، لكن المشقة كانت في مساحات المكتبة، فكانت المكتبة عبارة عن رف للكتاب فقط بلا مساحة للقراءة، والقراءة دائمًا تكون خارج المكتبة، ومن هنا جاءت استعارة الكتب. ثم توسعت بعد ذلك قليلًا وأضيف للمكتبة مساحات للقراءة، وتغير معنى المكتبة إلى معنى جديد، معنى يجمع الكتب بالناس، وظهرت القراءة الجهورية – المسموعة، واجتمع الناس ببعضهم، وصارت المكتبة مكانًا يلتقي فيه الناس، وتوسعت المعنى حتى صارت المكبتة مكانًا للتمثيل والتمسرح، واليوم ترى كيف أن المكبتة ليست للكتاب فقط بل صارت لكل شيء.

ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهرت وشاعت المكتبات العامة بشكلها المعروف والشائع اليوم، ومع ثورة التقنية اليوم وعالم الإنترنت تغير مفهوم المكتبة تمامًا وتبدلت رفوفها وأصبحت رفوفا في قواعد الإنترنت، ويبقى السؤال: هل سنحتاج إلى المكتبة مع تطور هذا العالم الرقمي؟ هل ستكون المكتبة مساحة للبحث عن المعرفة والمعلومة والكتاب المناسب أم انها أصبحت مكانًا خاصًا للتنزه وتغيير الجو؟