كم من إنسان ود لو نعته الناس بالحكيم، والحكيم عند الناس هو كل إنسان يضع الشيء في موضعه، وموضعه هذا يختلف عند الناس من إنسان لآخر، ولعلني في هذه الأمسية أريد أن أجيب على هذا السؤال: من هو الحكيم؟ أهو الكاتب، المؤلف؟ أم الشاعر الذي ينظم القصيدة؟ أم اللاعب، أم مدربه؟ أم إنه حتى المجنون يصلح أن يكون حكيمًا؟ وقد ذكرنا هذا في أمسية سابقة عنوانها أفواه المجانين.

وسأنظر معك اليوم في ركيزتها، وجوانبها المختلفة، ومع كل جانب سأنظر بنظرة مختلفة عن السائد، وإن كانت هذه الجوانب جوانب نظرية، فلسفية في أصلها، لكنها ستوصلنا إلى معنى من معاني الحكمة وأسرارها ومكوناتها، ما الذي يجعل فلان حكيمًا وفلان معتوهًا؟ وسننظر كذلك بعدها ما إذا كانت هذه الجوانب تصلح أن تأتي بالحكمة أم لا، ثم في الأخير سأعطيك نظرتي عن الحكمة، وكيف أعرفها؟ أكل الناس حكماء، أم بعضهم؟ أم ما من حكيم أبدًا؟

يشيع أن للحكمة ٥ أبواب، الباب الأول هو التواضع، والتواضع من أول تعاريف الحكمة المنوطة به، وبعض الناس يرون صاحب العلم المتواضع حكيمًا، بمعنى يصبح الإنسان حكيمًا، إن نعته الناس بالحكمة ولم ينعت هو نفسه بها، فحين لا تقول عن نفسك بأنك حكيم فأنت حكيم، وحين لا تقول عن نفسك بأنك عالم، فأنت عالم. والإنسان شكاك في معرفته، ولعل مبدأ التواضع قريب من نفوسهم لأنه يجعلهم حكماء، فكل إنسان يشك في علمه ومعرفته، ولو سلمنا للتواضع مبدأ لصار الناس كلهم حكماء، وكم من إنسان لا يصف نفسه بالحكمة مع علمه ومعرفته، فهل هذا يجعله حكيمًا؟

الباب الثاني هو التمييز – الدقة والصحة والصواب، بمعنى تكون حكيمًا حين تكون دقيقًا في معرفتك، ما هو الصواب وما هو الخطأ؟ والحكيم هو الذي يميز ما يجب عليه معرفته وما لا تجب عليه معرفته. وأظن المشكلة هنا أن معارفنا الشخصية ليست معيارا للمعرفة المطلقة الكاملة، فالتبرير لمعرفة من معارفك لا يجعل منها معرفة عامة وحقيقة صادقة، وبالتالي لا أظنه يجعلك حكيمًا.

الباب الثالث هو باب المعرفة نفسها، وكثير من الناس يؤمنوا بها، فبقدر معرفتك عن أمر من الأمور وإلمامك به فأنت حكيم. ولعل هذا من تعارف الحكمة الشائعة التي تجري في سليقة الناس. 

الباب الرابع هو باب تدبير الأمور، كيف يدبر الإنسان أمور حياته؟ فبمجرد معرفتك بتسيير حياتك وأوضاعها فأنت حكيم، وهذا أظنه معنى شائع كذلك عند الناس خاصة أن كل إنسان يعيش حياته بطريقة يعرف معها كيف يدبر أمور حياته، لكن هل معرفة تدبير أمور حياتك تجعلك حكيمًا؟

الباب الخامس هو اجتماع كل الأبواب السابقة معا في إنسان واحد، فتكون حكيمًا بتواضعك وتمييزك بين الحق والباطل ومعرفتك وتدبيرك لأمور حياتك.

أما أنا فأطارد الحكمة دائمًا من بوابة أن أضع الشيء في موضعه، ومن التعاريف التي لا تفارقني هو تعريف ابن القيم لها بأن الحكمة هي فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي. فقد تكون صاحب معرفة لكن عليك أن تعرف متى تستعمل هذه المعرفة ومتى لا تستعملها، لأنك قد تستعملها فلا تصيب، ولعلك تكون أقرب إلى الحكمة إذا لم تستعملها منك إلى استعمالها، متى تصرح ومتى لا تصرح، متى تعيش مسرورًا ومتى لا تعيش مسرورًا.