يقال بأن الناس خرجوا في يوم من الأيام يبحثون عن الذهب ولما لم يجدوه كتبوا على الجدران، ونحن حين ننظر في أدب الشارع واختلاف الناس حوله نجد أن هناك فريقين، فريق يراه صورة من صور الفن والتعبير والجمال، وفريق آخر يراه صورة من التشويه والتخريب، ولكننا لو نظرنا إليه بعين المستبصر قد نرى فيه شيئًا عجيبًا، فهل في الشارع ما يكون أدبًا؟ أو ما الذي جعل الأدب يكون في كتاب, لكنه لا يكون في الشارع؟    

معروف أن أدب الشارع من اسمه، ينسب إلى الشارع، فكل أدب تراه على الشارع هو من أدب الشارع، وقديمًا كانت حتى الكتب التي تباع في الشارع من أدب الشارع، والرسومات التي تعرض في الشارع من أدب الشارع، فهو أدب كغيره من الآداب الأخرى، ولعل ما جعله كذلك خصائصه التي اشتُهر بها في التاريخ، فكان لأدب الشارع ملامح يعرفه الناس بها جعلت هذه الكلمة تمتزج به فأصبح أدبا للشارع، فمرة تجدهم يصفونه بجنسه الأدبي، ومرة بجمهوره وقرائه، ومرة بموضوعاته التي يعرضها، ومرة بطريقة نشره وتوزيعه بين عامة الناس، ولو نظرت إلى تاريخ الناس لرأيت أنهم حاولوا مرارا وتكرارا أن يعبروا عن ما يدور في نفوسهم بالصور وبطرائق شتى كذلك ولكنها في الجدران على الشوارع. فها هم نقشوا على الأشجار والصخور وجلود الحيوانات، ولعل أكثر شيء عُرف عن أدب الشارع هو أدب الغناء الشعبي، فكان هو أهم موضوع لأدب الشارع لارتباطه ارتباطا وثيقا بعامة الناس وطبائعهم وعاداتهم، ولعل في كلمة شعبي ما يكفي لإيضاح ذلك، لكنه أخذ يمتاز بشعبية كبيرة في العصور التي تلت عصر الطباعة إلى القرن التاسع عشر وحل أدب الشارع محل الصحافة في المجتمعات الشعبية التي غالبًا ما تكون أكبر نسبة من عدد المجتمعات، فكان أدب الشارع لهؤلاء الناس يغطي القصائد والأشعار والإعلانات والصحف والأخبار، بل وجعلوه محلًا للأصوات والانتخابات وغيرها من أمور كثيرة تهمهم.

وأدب الشارع لم تكن مادة مقروءة فقط، بل كانت مسموعة ومرئية أيضا، فهي صورة للتسويق والإعلان التي يجدها الناس أمامهم، ولعلني أجد لهذا صورة واضحة أمامنا اليوم لكنها بشكل تقني حديث ما عهدناه من قبل، وذلك لأن الشارع يجتمع الناس فيه، ومنه أخذو ينفتحون على بعضهم ويعبرون عن رأيهم، بل وتعلموا القراءة والكتابة مما يتلقفهم، فلم تكن معرفة القراءة والكتابة ضرورة إلا في أماكنها المخصصة كالمدرسة والجامعة، لأنه ممكن لغير المتعلمين هؤلاء أن يفهموا القصص برؤيتهم إليها أو سماعهم لها وهي تغنى وتقرأ جهارًا أمام الناس.

وعلى أن طبقة أدب الشارع كانت طبقة خاصة بالفقراء والمساكين والمتسولين لأسباب اجتماعية واقتصادية عديدة، إلا أنه رسم لهم طريقا إلى الأدب بكليته فاشتملت مواضيعه على كل أمر قد يهم الناس، فكتبوا عن الأساطير والحكايات والألغاز والأخبار في صورة لم تقدر كتب كثيرة أن تصوغها وتحبكها كما صاغوها وحبكوها هم على الشوارع.

وكان لهذا الأدب وسائل وطرق ينشر بها، فمنها ما يسمونه Broadside وهي ورقة واحدة مطبوعة على جانب واحد, كانت هذه الورقة دائما تعلق في الشارع ويأتي إليها العامة من مختلف المدينة يتناقلوا موضوعها ويتعرفوا على أخبارها، وكانت تبقى أمامهم مدة ثم تزال، ومنها ما يسمونه Chat-book وهو كتيب صفحاته قليله لا تتجاوز اثنا عشر صفحة، تكون نسخة معدودة ومحدودة في الغالب وليس عليه غلاف، ومنها كذلك ما يسمونه Garland وهي عريضة خاصة بأبيات القصيدة المغناة، ولعل الذي جعل هذه الأنواع الأدبية تكون في الشارع ومن أدبه هي تكلفتها الميسورة، فكان الذي لا يستطيع شراءها من أماكنها المخصصة يجدها في الشارع بدراهم معدودة، وحين رأوا إقبال العامة على مثل هذه الأمور جعلوا ينظرون إليها نظرة المستقصد واتجهوا إليها وباعوها على الناس وجنو منها أرباحًا كثيرة، خاصة في أحوال الطقس وأخبار العامة التي دائما تهم الناس.

 

 

وعند الحديث عن أدب الشارع لا يفوتني الحديث عن الكتابة على الجدران خاصة، ولعل الكتابة على الجدران اليوم هي أشهر مادة في أدب الشارع، بل إنها أشهر حتى من الغناء الشعبي، فهو موجودة أمامنا في كل مكان ما دامت الجدران أمامنا في كل مكان، يسمونها اليوم جرافيتي Graffiti وهي كلمة يونانية تعني الكتابة والرسم على الجدران، وقد كانت علامة من علامات الآثار الرومانية القديمة والعصور الوسطى، واليوم نجد أن كثيرًا من الدول عندها قوانين تحظر الكتابة على الجدران لما تسببه من تخريب وتشويه، ولعل العقوبة كانت في بعض البلدان قاسية جدًا، فمعروف مثلا في دولة سنغافورة أن عقوبة الكتابة على الجدران هي الجلد، فكانوا يكتبون ويرسمون بأسماء متخفية مستعارة غير حقيقيه، فهي جريمة من الجرائم يحاسب عليها القانون، وقيل إن هذه الممارسات هي ممارسات سخيفة لما عرف عن تاريخها، فمن يمارس هذه الآداب هم المتسولون والعصابات الجاهلة خاصة في أمريكا، فقد كانوا يستخدمون هذا النوع من الرسومات والكتابات للتحذير أو التجمع ببعضهم إلى أماكن لقاءاتهم، ولكنهم بهذه الطريقة جعلوا لهم لغة خاصة بهم يستعملونها في أماكنهم المعروفة، كالأزقة والمسارات الضيقة والجسور والسكك الحديدية، وحاولوا للسيطرة على هذه الأمور أن يضعوا هيئات خاصة بالكتابة على الجدران، فمثلا ساحات القطارات كانت تخضع إلى حراسة مشددة جدًا لتلافي هؤلاء الفنانين.

وعلى أن الصورة الشائعة للكتابة على الجدران قديما صورة ليست مهذبة لارتباطها بالعصابات إلا أنها اليوم شكل من أشكال الفن والتعبير، صحيح أنهم حاولوا من القرن أن يزيلوا هذه الرسومات والكتابات من جدرانهم ويتجنبوا النظرة الدانية التي ينظر بها إلى هذه المجتمعات أنها مجتمعات غير متحضرة ولا متعلمة، واستبدلوها بأماكن ومساحات مخصصة يعبر ويرسم ويكتب كل فنان إبداعه عليها، وبهذا ظهر شكل جديد من أشكال الكتابة على الجدران، فكانت كل منطقة أو مدينة تخصص لها علامة خاصة بها، وقد اشتهرت بعض الأحياء ببعض علامات فنانيها.

ولو نظرنا في التراث العربي لوجدنا أمثلة جدارية شهيرة نسبت حتى إلى الأنبياء والمرسلين، فمنها ما نسب عن يوسف عليه السلام أنه كتب على جدار سجنه،  ومنها ما نسب إلى موسى عليه السلام أنه كتب على بعض الأحجار، وفي أخبار العرب وأشعارهم ما ينسب إلى أصحاب المظالم والمساجين والعشاق أنهم كتبوا على الجدران، وللأصفهاني كتابًا ألفه عن أدب الجدران عنوانه (أدب الغرباء) ذكر فيه شيئا مما كتبه الغرباء على الجدران.

غير أن ثورة الكتابة على الجدران المعاصرة والحديثة عرفت من القرن العشرين من شاب أمريكي اسمه Cornbread اشتُهر هذا الشاب بكنيته في كل مكان من مدينة فيلاديلفيا وعرفه الناس بهذه الكنية، وكان قد حرض هذا الولد من حوله من الناس أن يُكنوا أنفسهم كنى وأسماء جديدة ويكتبوها على الجدران، وقد شاعت بعد ذلك بسببه في كل شارع من شوارع نيويورك، ثم وصلت لبقية مدن أمريكا وولاياتها، وتكلمت عنها الصحف وأصبحت هذه الظاهرة هي حديث الناس، وثارت ثورة الفنانين جميعهم في البلاد، ودارة دوائر الكتابة على الجدران عندما تناولت الصحف هذه القضية، وأصبحت بعدئذ الكتابة على الجدران تنافسًا بين الفنانين ليتعرفوا على بعضهم، وقد بلغت ذروة الكتابة على الجدران أشدّها بين عامي 1975 و1977 حيث انتشرت في كل شارع، ولم يكن لها أسلوب خاص بها لكنها مع الوقت أخذت أساليب واضحة انتقلت من الأسماء والكنيات إلى بعض الرموز والعلامات ووضعوا هؤلاء الناس تواقيع خاصة بهم يُعرفون بها من أي مكان في العالم، ثم شاعت بعد ذلك الأفكار وتوالت وابتدعوا أفكار جديدة للرسم والكتابة، وكل حزب بما لديهم فرحون.

ولعل أكثر ما يعرف عن ثورة الفن الحديث هذا هو جدار برلين، فبعد انهياره عام 1989 التف عليه الفنانون من كل العالم وحولوه من جدار بائس إلى لوحات فنية بديعة ما زالت محافظة على شكلها إلى اليوم ، والآن لو ذهبت لأي مكان لرأيت في الشارع شيئا من أفكار الناس وفنونهم وإبداعاتهم، بل لربما وجدتها في تزيينهم الأماكن لما في ذلك من صورة شعبية فنية بسيطة تجذب الناس إلى هذه الأماكن، وأصبح كل فنان يود لو يمارس فنه على جدار الشارع أمام الجميع.