ما هو المثل؟

لا شيء يشيع بين الناس كما تشيع الأمثال، وكل قول سائر بين الناس يصبح حكمة. والأمثال ما هي إلا أقوال سائرة بينهم، فهي عبارة موجزة يستحسنها الناس شكلًا ومضمونًا فتشيع وتنتشر بينهم، ثم يتناقلها الخلَف عن السلف دون تعير متمسكين ومتمثلين بها، ولكن هذه الأمثال ليست من العدم بل هي عصارة تجربة من التجارب، ونتيجة لأحداث ووقائع وقصص حدثت في زمان معين جعلت الناس يستخرجوا منها هذه الأمثال فتشكلت وتكونت وجرت بينهم، لكن الغريب أن هذه الأحداث والوقائع والقصص نُسيت، وبقيتْ الأمثال نتداولها ونعبر بها عمّا يجري في حياتنا اليوم.

ولو فتشت عن أصل لهذه الأمثال وعدت للوراء قليلًا أو ربما كثيرًا لوجدت أن عددًا من المصادر يشير إلى رجل مصري اسمه بتاح حتب، هذا الرجل كان وزيرًا من وزراء مصر القديمة وقد عاش في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد وله تعاليم شهيرة جدا يسمونها تعاليم بتاح حتب، ويزعمون أنها أقدم قطعة أدبية في أدب الحكمة وتعاليمها التي جرت مجرى الأمثال اليوم وانتشرت في كثير من الثقافات والآداب. لقد كانت تعاليمه تلك يوجه بها أسرته وأفراد مجتمعه ممن يستولون مناصب القيادة والخلافة في زمانه، وكانت حول المبادئ والقيم الإنسانية والأخلاق الحميدة التي تضبط الإنسان وتحسن سلوكه وقيادته وتصرفاته، ومصدرها غالبًا يكون الوحي الذي يستوحيه إلى نفسه وينظم به حياته على نحو يتحقق منه غاية وجوده في هذه الحياة، وهكذا عن هذا الأصل تناولتها العديد من الآداب والثقافات الأخرى كالآشورية والعبرية واليونانية والسيريانية حتى وصلت إلى ثقافتنا العربية وجرت على ألستنا في كثير من عادات اليوم وتقاليده.

كنت إذا سمعت القائل يتمثل بقوله : لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، خلته مثلا عربيًًا لفصاحته وصدق معناه، وما كنت أظن في يوم من الأيام بأنني سأجده غير عربي، فأصله فيه من الكرم ما فيه، ولا يليق به، مع شيء من غيرة العربي، إلا أن يكون عربيًا، حتى رأيت نظيره في الثقافة الإنجليزية، فهم يقولون:

There is no accounting for tastes

واشتدت غيرتي ورحت أفتش عنه في صفحات الكتب وأخبار الأمثال، فوجدته لاتينيًا، لكن لما له من معنى يصلح أن يكون في ثقافة الناس المختلفة وجدوا له شبيهًا مقابلًا.

وهو معروف بهذه الصيغة في أوائل القرن التاسع عشر  وتحديدا في الأدب الفرنسي في رواية أسرار أدولفو لآنا رادكليف، ولهذا المثل أصل وقصة ذكره الفيلسوف اليوناني بلوتارخ على لسان قيصر في سيرته عن قيصر، يقول أن قيصر في أحد الأيام دعا ضيوفا له يأكلون الطعام عند ه فقدم لهم مُضيفه طعاماً لكنهم لم يستسيغوه وتذمروا منه فوبخهم قيصر على عدم استساغتهم لهذا الطعام بما معناه لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، ومعناه واضح من مبناه، أنه يصعب ويستحيل ويندر فهم سبب اختلاف ذوائق الناس، لماذا فلان يحب شيئا  يكرهه علان مع أن فلان يزعم أن المشكلة ليست في شيئه الذي يحبه بل في علان وذائقته. ونحن من شدة ما نستعمله في ثقافتنا العربية غاب عنا المثل العربي الأصيل الفصيح، فتقول العامة مثلا كناية عن هذا الاختلاف: لكل فولة كيال، ولكل بضاعة شراي. أما في الفصيح فنقول كما ينشد الحمداني:

ومن مذهبي حب الديار وأهلها           وللناس فيما يعشقون مذاهب

إن اختلاف الأذواق هذا أصبح أصلًا من أصول التواصل الثقافي بين الناس، وكأن الناس يتشابهون في اختلافاتهم، فأصبح الاختلاف أثرَا من آثار الرحمة، بل عدوه في الأذواق من الأخلاق حتى شاع المثل كثيرًا في معظم ثقافات العالم وأصبح حلقة تربط العالم ببعضه ووصل بهم الحال ليستشهدوا به في بعض الأحوال الدينية، وأرى من لطائفه أن الاختلاف لا يكون في الآراء والأفكار و الذوائق  فحسب، بل قد يختلف الإنسان مع نفسه حتى، فتراه لا يؤمن بنفسه التي كانت تعجبه بالأمس وقد غير كثيرا من أفكاره وعاداته وأصدقائه وهيئته في مجتمعه الذي يعيش فيه اليوم، ففي حياة كهذه تجري بسرعة هائلة إلا أن تكون قادرا على استيعاب المزيد من المستحيلات، وإلا أن تمرن معتقداتك بأن كل شيء قد يحدث.